في الفصل الأخير من (مدائن الوهم) عرضت للشعراء الذين ينتمون إلى فئة (وشاعر لا تستحي أن تصفعه) ومع ذلك تجنبت أن تسميهم, واكتفيت بأسماء مجموعاتهم,. ألا تعتقد بأن تسميتهم كانت ضرورية,. من باب الوصول بالجرأة في كشف الزيف والركاكة إلى أقصى حدودها,. ما تعليقك على ذلك?
** إذا كان الراجز القديم قد صنف الشعراء إلى صنوف أربعة, رابعها <<وشاعر لا تستحي أن تصفعه>> وأنا حولتها إلى <<وشاعر من حقك أن تصفعه>> (مع هذا الزحاف البسيط) وفي التراث القديم روائع من الشعر تطغى على الركيك القليل, فماذا سيكون شعور الراجز لو قدر له أن يقرأ بعض المجموعات الست والثلاثين التي عرضت لها? لقد تجنبت ذكر أسماء أصحاب تلك (الروائع) لأتي لست في معرض التشهير. وكفى خزيا أن (نقتطف) بعضا من تلك الروائع. أي صاحب ذوق شعري يمكن أن يسيغ كلاما مثل: (عندما كنت صغيرا / ضاعت الدمية في البحر / فتماديت أضيع كل شيء بعد ذلك / فأنا كنت أضعت لغتي, ودروسي / وحذائي,. وكل من أحببتهن في حياتي)? الجمع بين الدمية واللغة والدروس والحذاء والحبيبات في (شعر حر) هو آية من آيات البطولة الشعرية في هذا الزمان (اللا يقدر) العبقريات الشعرية. وهذه رائعة شعرية أخرى (أرقدتني تحت تينة: ريم على القاع / ورقصت علي / قلت في سكة وجيعة وضوء / فرقصت على ماء ورقصت علي ). حب ذا لو يتصدى أحد المعجبين بهذا الهراء فيشرح لي, ولك, معنى هذا (الحكي) واتجاهات الرقص والمرقوص عليه. وهذه عينة أخرى (قابلتها وهي تخبئ في ثيابها تفاحة طائبة). أين اختبأت هذه (الطائبة)? وعن (الوردة اللاسلكية) يقول المحروس (وشججتها في صحن المسافر خانة) , مثل هذا الشاعر,. أيكفي أن تصفعه??
في كتاباتك النقدية تميز بين (الشعر الحر) و(قصيدة النثر) و(شعر التفعيلة). نحب أن تقدم لنا تمييزا مكثفا بينها, لأن الخلط ما زال مستمرا بين هذه التسميات حتى في كتابات المتخصصين.
** بلى! هذا الخلط مصيبة في الكتابات النقدية منذ عام 1947 وأحاديث نازك الملائكة عن (الشعر الحر) وهي التسمية الخطأ لشعر التفعيلة الذي طورته في أولى قصائدها بعنوان (الكوليرا). طوال عقود أربعة عجاف وأنا أكرر في جميع كتاباتي أن (الشعر الحر) تسمية اخترعها الشاعر الأمريكي (والت وتمن) عام 1855 في مقدمة مجموعته (أوراق العشب). والترجمة العربية للمصطلح الأمريكي غير دقيقة أساسا . فالعبارة هي Free verse وليس.Free poetry والمشكلة أن كلمة Verse تعني (بيتا من الشعر المنظوم) بينما كلمة Poetry تعني الشعر بمعناه الأوسع. كان الحري بالمصطلح أن يترجم إلى (النظم الحر) لأن ما طورته نازك الملائكة ومعها بدر والبياتي وبلند والتابعين هو نظم بالتفعيلة يتحرر من عدد التفعيلات في بحور الخليل, ولكن الخطأ شاع واستشرى, وغلبت عليه الحكمة المأفونة (خطأ شائع خير من صحيح مهجور) وهو موقف يصور تحج ر الفكر لدى بعضنا ورفض الرجوع عن الخطأ,. مع أنه (فضيلة).
والترجمة الفرنسية للمصطلح الأمريكي هي Vers Libre وليس.Poésie Libre ففي الفرنسية, كما في الإنجليزية شعر موزون مقفى بعدد محدد من التفعيلات إلى جانب (شعر حر ) غير موزون ولا مقفى, يحمل شحنة شعرية هي في شعر (بول إيلوار) شبيهة بشعر (والت وتمن) و(إليوت) من بعده. أما في العربية, فشعر التفعيلة يلتزم الوزن والقافية, لكنه (يتحرر) من عدد التفعيلات الخليلية ومن حرف الروي الواحد. فهو (نظم شعري) لأنه موزون مقف ى ولأن شحنته الشعرية لا تخفى على أي متذوق للشعر. لنستمع إلى بدر (عصافير,. أم صبية تمرح / عليها سنا من غد يلمح / وأقدامها العارية / محار يصلصل في ساقيه / لأثوابهم زفة الشمال / سرت عبر حقل من السنبل / كهسهسة الخبز في يوم عيد / كغمغمة الأم باسم الوليد / تناغيه في يومه الأول )
رنة (فعولن) لا تغيب عن الأذن, والقافية كذلك.
في تراثنا العربي مفهوم محدد للشعر منذ ابن سلام الجمحي وابن قتيبة: (الشعر كلام موزون مقف ى يفيد معنى,. فإن لم يفد معنى فهو ليس بشعر وإن أتى بالوزن والقافية) , هذا قانون لا نخرج عنه. أما (النظم الحر) فهو يقع في حدود هذا القانون التراثي. لكن (الشعر الحر) هو ذلك النوع (المستورد) من خارج تراثنا. لا بأس أن تتطور الكتابة في العربية لتجري على (سطور) تتراوح طولا بين كلمة واحدة وسطر طويل أو أكثر, إذا كانت الكلمة الواحدة أو السطر الطويل أو أكثر مما يؤدي فكرة أو صورة بعينها, وهذا هو قانون (الشعر الحر) الأمريكي - الأوروبي: لا وزن ولا قافية, إلا ما جاء عرضا , كما في بعض شعر إليوت. والمصيبة أن بعض أصحاب الشعر الحر في العربية استعذبوا الانفلات من قيود الوزن والقافية فجاء رصف الكلمات من أعجب العجب. فإذا سألت عن المعنى والمغزى والصورة,.
من أمثلة (الشعر الحر) الجيد في العربية أعمال جبرا إبراهيم جبرا, توفيق صايغ, محمد بن يس, محمد الماغوط, إبراهيم نصر الله وغيرهم. وهو القليل الجيد مما نشر في العقود الثلاثة الماضية. أما أغلب ما نقرأ في صحف اليوم فهو من باب (كتابات شابة).
أما (قصيدة النثر) فهي من (مخترعات الفرنجة) لصاحبها (بودلير) الذي سماها poeme en prose أي (قصيدة نثر) أو (قصيدة النثر). هذه كتابة ذات شحنة شعرية مكثفة تمتد فقرات بطولها أو صفحات, لا وزن فيها ولا قافية ولا أسطر قصيرة مثل (الشعر الحر) عالجت هذا النمط في الكتابة الشعرية (سوزان برنار) الفرنسية ثم (لطشها) شاعر معاصر وادعاها لنفسه. وهنا انفتحت أبواب أخرى من الانفلات, لكن (الساحة الأدبية) لا تخلو من قصائد نثر عربية على درجة عالية من التركيز والإيحاء
وسيظل الموضوع ذو شجون ويختلف فيه المختلفون